في ذكرى رحيله: ذوقان الهنداوي... أحد رجالات وصفي وأعمدة الدولة الأردنية
كتب: مُعين المراشده * -
في الثاني من تموز من كل عام، يستعيد الأردنيون ذكرى رجلٍ من طرازٍ استثنائي، لم يكن مجرّد موظف يتنقّل بين المناصب، بل كان من صنّاع الدولة الحديثة، ومن رجالاتها الأوفياء الذين حملوا مشروعها بعقل الدولة وقلب المواطن، في زمنٍ كانت فيه القيم تسبق المصالح، وكان الانتماء للوطن أصدق من كل الشعارات.
الراحل ذوقان الهنداوي، ابن بلدة النعيمة في محافظة إربد، لم يكن مجرد اسمٍ في تاريخ الدولة الأردنية، بل سيرة ناصعة لرجلٍ شغل الحضور وفرض الهيبة، وكان في كل موقعٍ يشغله يُشكّل فارقًا في الأداء والرؤية والقرار. كان شخصية جامعة، تُجيد الإصغاء كما تُحسن الحسم، وتؤمن بأن المسؤولية تكليف لا تشريف.
إنه أحد أبرز رجالات الدولة، وركيزة من ركائز العمل العام والفكر التربوي، ومن المقرّبين إلى الشهيد وصفي التل، الذين شاركوه الحلم بمشروع الدولة الأردنية القوية، القائمة على المؤسسات، والانتماء، والعدالة. وقد كان بينهما احترامٌ متبادل ومشروعٌ مشترك، تجسّد في قيم التضحية والنزاهة والولاء للعرش والوطن.
الهنداوي حاصل على ليسانس في التاريخ من جامعة القاهرة (1950)، وماجستير في التربية من جامعة ميريلاند الأميركية (1956)، وهو من أوائل الأردنيين الذين جمعوا بين التكوين الأكاديمي العالي والرؤية الإصلاحية في العمل العام، فكان رجلَ المعرفة والسياسة، ورجلَ الفكرة والموقف.
طوال حياته، تقلّد مناصب رفيعة، من نائبٍ لرئيس الوزراء، ووزيرٍ للتربية والتعليم لعدة مرات، إلى وزيرٍ للإعلام والشؤون الاجتماعية والمالية، ثم رئيسٍ للديوان الملكي الهاشمي، وعضوٍ في مجلسَي الأعيان والنواب، وسفيرٍ للأردن في القاهرة والكويت. لم يكن عبوره لهذه المواقع مرورًا عابرًا، بل ترك في كل منها أثرًا وبصمة، وكان أينما حلّ يُشهد له بالكفاءة والنزاهة والهيبة.
كان نموذجًا للرجل الذي يخدم الوطن والعرش الهاشمي بعقلٍ مؤسسيّ، ويكرّس جهوده لبناء الإنسان الأردني، وتعزيز قيم الولاء والانتماء والعمل الصادق. لم تغرِهِ الألقاب، ولم تُغره السلطة، بل ظل يرى في التعليم والمعرفة أدوات النهضة الحقيقية.
ومن أبرز إنجازاته الفكرية كتابه "القضية الفلسطينية"، الذي أُدرج ضمن مناهج التعليم الأردني لعقود، لترسيخ الرواية العربية في أذهان الأجيال. ورغم سحبه لاحقًا من المنهاج، تُطلَق اليوم مبادرة وطنية لإعادة طباعته وإشهاره بالتزامن مع ذكرى وفاته، تأكيدًا لأهمية استعادة المشروع التوعوي الذي حمله هذا الكتاب، في زمنٍ تراجعت فيه الرواية القومية لحساب التزييف الإعلامي والسياسي.
لقد مثّل ذوقان مدرسة وطنية متكاملة، متجذّرة بالمعرفة، ومحصّنة بالخلق، ومدفوعة بحسّ عالٍ بالمسؤولية. لم يكن يومًا تابعًا لأحد، بل صاحب رأيٍ وقرار، يعارض من أجل المصلحة، ويؤيد من أجل الوطن، ويصمت حين تقتضي الحكمة، ويتكلم حين يتطلب الموقف الشجاعة.
وعلى درب والده، يواصل أبناؤه حمل الإرث الوطني، وفي مقدمتهم الوزير أحمد الهنداوي، الذي يُعدّ امتدادًا لقيم والده في العمل العام، ورمزًا للكفاءة والانتماء في جيل الشباب الأردني.
لقد آمن ذوقان أن المعركة ليست فقط في السياسة، بل في المدرسة، والمناهج، والكلمة الصادقة. فعمل بإخلاص على تطوير التعليم، وتعزيز الهوية الوطنية، وصون اللغة العربية، وتحفيز المعلمين والطلبة على بناء أردنٍ عصري، متسلّح بالعلم والكرامة.
وفي الذكرى العشرين لرحيله، نقول:
رحمك الله يا ذوقان،
غبتَ جسدًا، لكنك لم تغب عن ذاكرة الأردنيين،
كنت رجلَ دولةٍ لا رجلَ منصب،
وستبقى حاضرًا في صفحات الوطن، وفي قلوب من عرفك، أو قرأك، أو تتلمذ على مدرستك الوطنية.
سلامٌ عليك في الغياب، كما كنتَ سلامًا في حضورك.
* ناشر ورئيس هيئة تحرير وكالة "الرقيب الدولي" الإخبارية.