المعابره يكتب: صفقوله...
.
الكاتب الساخر: وليد معابرة - جامعة آل البيت
قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وعندما كنت طالباً في السنة الجامعيَّة الأُولى؛ كنت أَتجوَّل في ساحة كليَّة الهندسة؛ فعثرتُ على عشرين ديناراً كانت تتطاير تحت مقاعد الطلبة، فقرَّرت أن أكون مواطناً صالحاً؛ فذهبت إلى مكتب العميد وقدَّمت له العشرين ديناراً بشفافيَّة ونزاهة! عندها ابتسم لي، ووضع "العشرين" في جيبه، ثم نادى الطلبة وصاح فيهم بصوت مهيب: "صفقوله"!
كانت تلك اللحظات؛ تمثل المرَّة الأولى التي أبيع فيها ثروتي مقابل التصفيق! لذا؛ فقد انتفخت شرفاً وانتعشت انتعاشة الطلقاء! فأَنا من قومٍ يعشقون التصفيق كثيراً، ويمارسونه في كلِّ الميادين! لكن -في الوقت ذاته- تولَّدت لديَّ رغبة وطنيَّة تجبرني أن أَتحسَّس جيبي كلَّما رأيتُ مسؤولاً؛ لأَتأَكَّد أنَّني ما زلت مُفلِساً، وأنَّني مازلت أَستحق التصفيق.
وفي السنة الجامعيَّة الأَخيرة، وضمن آخر أُسبوع لي في أيام الجامعة؛ رأيتُ طاولةً قديمة ومهجورة، عليها كتاب تاريخ يكسوه الغبار من فوقه ومن تحته؛ وبعد أن مسحت جزءاً من عنوان الكتاب؛ أدركت بأَنَّه يتحدَّث عن ذاكرة وطنٍ تُرِكَت ونُسيَت في العراء؛ فحملتُه بحماس شديد، وقرَّرت أَن أُعيد للتاريخِ كرامته؛ فذهبت إلى مكتب الرئيس؛ فاحتضنني بشدَّة، ومنحني كتاب شكرٍ يُزيِّن لوحة الشرف الجامعيَّة، ثم أخذ التاريخ ومسح ما بقي عليه من غبار الهجران، ووضعه في درج المكتب، ثم صرخ بالطلبة بصوتٍ أعلى من صوتِ العميد: "صفقوله"!
عندها أدركت أَنَّنا شعوب لا نقرأ التاريخ؛ بل نسلِّمه -في كلِّ مرَّة- لرئيس جديد؛ يعلِّمنا كيف ننساه، كما أنَّني تأَكدَّت تماماً أَنَّه لا فرق بين (العشرين دينار) وكتاب (التاريخ)، فكلاهما إِذا وقع في يدِ مسؤول؛ فإنَّه سيُودَعُ في الجيبِ نفسه.
بعد أن نضجتُ عقلياً؛ تعلَّمت أنَّ العشرين ديناراً في وقتنا الراهن تصنع لي ولعائلتي "سدر مقلُوبة مرتَّب" نستذكر فيه طعم الدجاج الذي قاربنا على نسيان مذاقة، لكنَّ "العشرين" نفسها في تلك الأيام كانت تشتري وَهمَ الفضيلة!
وبعد أن كبُر عقلي وانمازت أَفكاري؛ أدركتُ حينها أنَّني كبرت سنَّاً وعقلاً؛ ولكنَّ دويلاتنا بقيت كما هي؛ تكافِئ الشرف بالتصفيق، وتكرِّم النزاهة بكتبِ شكرٍ مطبوعة بأَخطائها الإِملائيَّة.
خلاصة القول: إِنَّ الشعوب التي تُصفِّق لمن يعثُر على التاريخ، كما تُصفِّق لمن يعثُر على المال؛ هي شعوبٌ لن تكتب التاريخ أبداً، بل تنتظر من يكتبه عنها؛ لأَنَّها -في حقيقتها- شعوب لا تمتلك مالها، ولا تدرك قيمة مواردها، ولا قداسة ماضيها! هي فقط شعوب تسعى لامتلاكِ راحة يدٍ دافئة لا تتعب من التصفيق.