د. محمد حيدر محيلان يكتب: الإدارة المحلية في الأردن بين الرؤية الملكية والاستجابة الحكومية
الدكتور محمد حيدر محيلان *
تقف الإدارة المحلية في الأردن اليوم أمام لحظة مفصلية، تتجاذبها طموحات الإصلاح من جهة، وميراث طويل من التشريعات المقيدة والتحديات المتراكمة من جهة أخرى. سنوات من الجمود عاشتها البلديات ومجالس المحافظات، محاصَرةً بقيود مالية، وإجراءات بيروقراطية، وصلاحيات مُبهمة، جعلت من هذه المؤسسات أداة مشلولة، لا تعبّر عن نبض المجتمعات ولا تستجيب لتطلعاتها.
لكنّ بارقة الأمل التي أطلقها جلالة الملك عبد الله الثاني أعادت توجيه البوصلة نحو الطريق الصحيح، حين أكد في لقائه مع رؤساء المجالس المحلية، (أن هذه الهيئات تمثّل مفتاح أي تطوير في البلاد)، مشددًا على أن النجاح في اللامركزية لن يتحقق إلا بتمكينها ماليًا وبشريًا، بما ينعكس في خدمات يشعر بها المواطن مباشرة. لم تكن تلك الكلمات الملكية مجاملة بروتوكولية، بل إعلان نوايا صريح وصادق، يحمل في طيّاته خريطة طريق واضحة المعالم، تُلزم الدولة ومؤسساتها بإعادة هيكلة الإدارة المحلية، وتحويلها من دور تنفيذي ضيق إلى فاعل تنموي مستقل وشريك في القرار والتنمية.
فقد ترجم جلالته هذا التوجه في كتاب التكليف السامي الموجَّه إلى الدكتور جعفر حسان في الثامن عشر من أيلول 2024، الذي نصّ بوضوح على ضرورة مراجعة التشريعات المحلية، وتأهيل الكوادر، وتطوير أدوات العمل البلدي، والالتحاق بركب التحول الرقمي. وقد كانت رسالة ملكية واضحة وحاسمة، لم تترك مكانًا للتهرب أو التأجيل، بل وضعت الحكومة أمام مسؤولياتها المباشرة، وربطت الإصلاح الإداري بالإرادة السياسية العليا للدولة.
في المقابل، صدع رئيس الوزراء المكلف الدكتور جعفر حسان لخطاب جلالة الملك، وجاءت استجابته على مستوى التحدي، فكان خطابه في مجلس الوزراء حازمًا ومباشرًا، حين أعلن أن الحكومة ستشرع في إعداد إطار قانوني متكامل للانتخابات المحلية، يضمن تمكين المجالس من أداء أدوارها التنموية والرقابية، بعيدًا عن التعقيدات المركزية التي كبّلتها طويلًا. وفي لقائه مع كتلة «تقدّم» النيابية، شدّد حسان على أن حكومته ماضية في ترسيخ قواعد الحوكمة، وتطوير القدرات المحلية، وإرساء معايير عالمية في التحول الرقمي، بما يجعل البلديات جهات شريكة في القرار لا مجرد منفذة لتوجيهات فوقية.
إلا أن التغيير الحقيقي لا يكتمل ما لم يُترجَم إلى واقع ملموس. فالبلديات لا يمكن أن تنهض بمهامها في ظل ميزانيات لا تُصرف في الموعد المحدد، ولا يُسمح لها بتدوير فوائضها، ما يحوّل المخصصات إلى أعباء ديون بدلاً من أن تكون رافعة للمشاريع. كما أن غياب التدريب المستمر لكوادر المجالس المحلية أضعف قدرتها على التخطيط والإدارة، وأفقدها ثقة المواطنين بقدرتها على الإنجاز. يضاف إلى ذلك، التداخل المستمر في الصلاحيات مع بعض الجهات المركزية، والذي ظلّ سببًا مباشرًا في إبطاء التنفيذ وضياع جهود التخطيط، فضلًا عن ضعف أدوات التشاور الشعبي، التي جعلت المجالس تعمل في عزلة عن المجتمعات التي تمثلها.
في خضم هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى مسار تشريعي جديد، لا يكتفي بالترقيع، بل يُعيد بناء منظومة الإدارة المحلية استنادًا إلى نماذج دولية ناضجة، تتفق في جوهرها مع خصوصية الواقع الأردني، وتفتح أفقًا عمليًا للنهوض الفعلي بواقع البلديات والمجالس المحلية. ففي جنوب إفريقيا مثلًا، مُنحت البلديات صلاحيات مالية فعلية ضمن إطار قانون موحد، يتيح لها فرض رسوم محلية، والاستفادة من الأصول غير المستغلة، مع رقابة مركزية تعزز الشفافية ولا تُكبّل الصلاحيات. وفي كندا، لا سيما في مقاطعة كيبيك، باتت البلديات مسؤولة عن التنمية الاقتصادية، وتُخوّل اصدار قانون تأسيس صناديق استثمار محلية تستقطب المشاريع، وتخلق فرص عمل، وتنهض بالاقتصاد المجتمعي. أما ألمانيا، فاعتمدت نظامًا انتخابيًا مختلطًا يدمج التمثيل النسبي والدوائر الصغيرة، لضمان تمثيل فئات المجتمع كافة، بعيدًا عن هيمنة المال أو الاعتبارات الجهوية.
أما التجربة الفرنسية، فقد تم سنّ قانون خاص بالحكم المحلي يحدّد بوضوح العلاقة بين المركز والأطراف، ويمنع التداخل عبر ميثاق إداري ملزم، ويربط التمويل الممنوح بالأداء المؤسسي والشفافية. وفي إستونيا، التي تُعدّ من أنجح التجارب الرقمية، أصبحت المجالس المحلية تمتلك منصات رقمية فاعلة تُشرك المواطنين في صياغة القرارات، وترفع نسبة المشاركة الشعبية، وتخلق رقابة مجتمعية حيّة.
إنّ كل هذه التجارب تتقاطع في نقطة واحدة: الإدارة المحلية الناجحة لا تنجح بالشعارات، بل بالتشريعات التي تؤمن بالصلاحيات، وتستثمر في الإنسان، وتبني الثقة مع المجتمع المحلي، وتحفّز المجالس على الابتكار والابداع والريادة لا على البيروقراطية والروتين الممل.
لقد آن الأوان أن تتحرر البلديات في الأردن من قيود المركزية، وأن تصبح لاعبًا أساسيًا في مسيرة التنمية، لا تابعًا منفذًا لتوجيهات غير مرنة. آن الأوان أن تتحول من جهاز إداري يستهلك المخصصات، إلى مؤسسة تنموية تنتج الحلول الممكنة والقابلة للتطبيق الفوري.
إذا كان حل المجالس المحلية اليوم ضرورة مؤقتة، فإن استعادة ثقة المواطن بها غدًا لا تكون إلا من خلال تشريعات تُمنح فيها الاستقلالية المالية، والصلاحيات الواضحة، والقدرة على الإنجاز.
ثم لا يكفي أن يُعاد تشكيل هذه المجالس بصيغتها التقليدية، بل لا بد أن يصاحب ذلك نظام انتخابي ذكي وعادل، بحيث يتم تصميم منظومة انتخابية تختار من تجارب عالمية ناجحة، تمنع الاستحواذ، وتشجع التعددية، وتُطلق يد المواطن في الاختيار الحر لوصول الاكفاء للمجلس البلدي، وذلك من خلال أدوات قانونية فاعلة، لا تسمح بسيطرة فئة معينة، وهيمنة جهة حزبية أو أيديولوجية واحدة على مفاصل المجالس، بل تُقدَّم بوصفها جزءًا طبيعيًا من هندسة الإدارة المحلية في الدولة الاردنية.
حين تتعانق الرؤية الملكية الشاملة، مع الاستجابة الحكومية الواعية والحكيمة، كما في نهج الدكتور جعفر حسان، وتتغذى التجربة الأردنية من تجارب عالمية راسخة، تصبح العودة إلى بناء مجالس محلية قوية ليس استحقاقًا انتخابيًا فحسب، بل ضرورة وطنية تضمن العدالة التنموية، وتُعيد رسم العلاقة بين الدولة والمجتمع من جديد، على قاعدة الثقة، والشراكة، والقدرة على التغيير. والله وخدمة الأردن من وراء القصد.
* أستاذ الإدارة العامة – معهد الإدارة العامة – الرياض