على رصيف الحضارة..
الكاتب الساخر: وليد معابرة-جامعة آل البيت
بينما كنت أُقلِّب صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، أبحث عن المنشورات الفلسفيَّة الموثَّقة التي تغذي العقل بالعلم، وتعززه بالمعرفة، وتُغدقه بأنماط التفكير الإبداعيَّ، وإذا بي أتعثَّر و"أتدعثر" بمقطع فيديو لرجلٍ مضاف إلى جمع المذكر السالم؛ قد نقلني من عالم المنطق والفلسفة العميقة؛ ليرسلني إلى غياهب الجُبِّ الذي لا يعرف شيئاً عن الحضارة ولا يعي مقدار أُنملة عن المدنيَّة، فقد كان يعرض فكراً هزليَّاً على شكل محاضرة لفيلسوف متوهِّم بِأَنَّه من دعاة الفِكر، حيث كان يتمايل بأَشداقه، وينتفخ شرفاً بفصاحته المصطنعة، فيحدِّث المذيع بلهجة الواعظ، قائلاً:
👈 "إذا وصلني كتاب أو معلومة من خلال شبكة الإنترنت؛ فإنَّني أقول: (سبحان الذي سخَّر لنا هذا وما كنَّا له مقرنين)"!
👈 وقد أضاف إلى الطين بَلَّة حينما ختم كلامه قائلاً: "الحمد لله الذي سخَّر لنا ((الكُفَّار)) ليخترعوا لنا هذا الاختراع؛ لأَنَّنا ضعيفون ولا نجيد التدبير والوصول إلى ما وصلوا إليه"! انتهى الاقتباس.
إنَّ الزاعم يظنُّ أنَّ الإنترنت جارية مسبيَّة كافرة أُرسلت إليه من وراء البحار معلنةً طاعتها وولائها لخدمته، وأنَّ الكتب تتدحرج إلى شاشة هاتفه ببركة تسابيحه، وطول مسبحته؛ فتتجلَّى له الأفكار، فيبتلينا بمفهوم جديد ينشر عبقريَّة التخلَّف المتجسِّد في شكرنا للغرب؛ لأنَّه يفكِّر نيابة عنَّا، ثم نطعن به ونسبُّه؛ لأنَّه لم يترك لنا مجالاً للتفكير! فنباتُ ونصبح في قاع الأمم؛ نبحث عن وسادة تُريحنا أثناء النوم، ثم نعمل على إقناع الآخرين أنَّ القاع هو قاعدة أساسيَّة ينطلق منها البناء، ففتئنا نمارس الغرق باحتراف، ثم نتغنى بأناشيد الصمود تحت الركام، ونرفع شعارات العظمة بعد أن غزونا الدرك الأسفل من الحضارات واشتغلنا طويلاً على احتلاله واغتصاب أَرضه وسبي نسائه.
في الحقيقة:
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تُكَفِّر من يصنع الطائرة؛ ثم تركبها للحج وتبكي خشوعاً فوق السحاب!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تَشكُر الكُفَّار على ما اخترعوه في الهدوء؛ لتستهلكه في الفوضى!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تَسُبُّ الكُفَّار نهاراً؛ لتستفيد من خبراتهم في الليل!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تُمجِّد الجهل، وتبارك العجز، ثم تصنع منه العبادة التي لا يقبلها إله!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تُحَرِّم الفلسفة في الكتب، ثم تقتبسها خِلسةً لتبدو عميقة!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تُكفِّر الحريَّة، ثم تتسوَّل حقَّها عند أوّل معتقل!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تلعن الديمقراطيَّة، ثم تتباهى إذا صوَّتت في انتخابات رئاسيَّة!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تُصِرُّ أن تكون "خير أُمَّة"، وهي لا تُجيد سوى التسوُّل المعرفي!
🔸 إنَّ هذه النماذج؛ هي التي تَسخَرُ من علوم الغرب، لتفتخر بعدد متابعيها على منصَّاتهم!
باختصار؛ إنَّها ملهاة سياسيَّة واجتماعيَّة كبرى تتجسَّد في شعوب تُمجِّد جهلها وتبارك عجزها، ثم تهتف بكلِّ ثقة أنَّها خير أُمة أُخرجت للناس؛ وهي في حقيقتها ليست سوى أُمة أُخرجت من قطار الحضارة؛ لتجلس على رصيف التسوُّل المعرفي، لتتمكَّن من ممارسة الدعاء الذي يُسخِّر لها الكُفَّار كي يبنوا لها مقعداً من الريش الناعم؛ يُعينها ويخدم جلوسها على رصيف وطنها البديل، ومسرح بطولاتها الوهميَّة التي لا تعرض إلا خطبَ الأمجاد الماضية، فتوزِّع صكوك الغفران على المخترعين، لتنتظر الفرج من سماءٍ لا تُمطر إلا على من زَرَع، لتبقى مشغولة بترف الدعاء، وتفاخر الجلوس في القاع، وتكريم الكسل على أنَّه زهدٌ وَوَرَع.
خلاصة القول: إنَّ وجود رجال يتشابهون فكراً برجل يحمل تلك العقليَّة ويظن أنَّه مفكِّر وداعية لا يُشقُّ له غبار! يَشكُرُ على فضيلة جلوسه في بيته كي يُصفق لجهد الآخرين، ويُجيد فنَّ التحميد على جهله، ثم يَشكُر الكُفَّار على ما اخترعوه؛ ليستأنف تكفيرهم عند أول اختلاف حضاري؛ لهو أمرٌ يُجبرنا ويحثُّنا على استنزاف طاقاتنا في إعادة قراءة التاريخ والاعتراف بالجزئيَّات المتوافقة مع العقل والمنطق، ثم إهمال حالات "الآبائيَّة" التي عاشها الجاهليُّون من قبل، حتى لا نبقى غارقين في قوقعة التخلُّف الفكري والحضاري؛ الذي لا يعرف أبسط خطوات مطاردة المجد سعياً لتحقيقه.
✋ فإذا بقينا على تلك الحال، ورضينا أن نبقى جالسين على رصيف الحضارة؛ نصفِّق للتطوُّر ونلوِّح له كالمودعين في محطة قطار، ونجادل في المجد بَدَلَ أن نصنعه، ونتسوَّل العلم والمعرفة من بعض الأُمم التي وُلدت بعدنا بكثير؛ فإِنَّه حتماً سينتهي بنا الأمر إلى أن نصبح حاشية في كُتُبِ الآخرين؛ مكتوب في مضمونها: بأنَّنا أُمَّة نامت حتى طمسها الغُبار، وعندما استفاقت؛ سلكت خطاً متعرِّجاً، فاستقالت من مهامها وبدأت تحفر قبورها وتخيط أَكفانها للمغادرة الإجباريَّة والانسحاب من التاريخ.