الخبير القانوني د. زيد المراشده يدعو لاعتماد البحث العلمي ركيزة لإنتاج تشريعات أردنية فاعلة ومستدامة
د. زيد مُعين المراشده - أرشيفية
عمّان، 10 آب 2025م –
قال الدكتور زيد مُعين المراشده، الخبير في الشؤون القانونية والإعلامية، إن البحث العلمي أصبح ركيزة أساسية لإنتاج تشريعات فاعلة ومواكِبة لاحتياجات الدولة والمجتمع، مشددًا على أن عملية الإصلاح التشريعي تتطلب ربطًا وثيقًا بين المعرفة القانونية والتحليل العلمي متعدد التخصصات.
وأشار المراشده في مقال نُشر اليوم في صحيفة "الدستور" الأردنية، بعنوان:
"البحث العلمي في إصلاح التشريعات الأردنية: أداة فاعلة لتحقيق التنمية الوطنية"، إلى أن الإصلاح الحقيقي للتشريعات يُبنى على دراسات علمية رصينة تستند إلى الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وتراعي تداخلات المعرفة الحديثة في ميادين الاقتصاد، البيئة، الصحة، التكنولوجيا، إلى جانب القانون.
وسلط الدكتور المراشده في مقاله الضوء على نظام التنظيم الجيد وتقييم الأثر للتشريعات والسياسات رقم (16) لسنة 2025، الذي سيدخل حيّز التنفيذ مطلع أيلول المقبل، معتبرًا إقراره محطة مفصلية في مسار التحديث التشريعي في الأردن.
وبيّن أن النظام الجديد يؤسس لنهج مؤسسي يقوم على تحليل الأثر المسبق والمراجعة المستمرة، ما يضمن تطوير التشريعات بشكل متجدد وفعّال.
كما لفت الدكتور المراشده إلى أن من أبرز مضامين النظام الجديد إلزام الجهات الحكومية بإشراك مؤسسات متعددة في مراحل إعداد السياسات والقوانين، ما يمثل تحولًا نوعيًا نحو صناعة تشريعية تشاركية قائمة على المعرفة والدليل العلمي، لا على ردود الفعل الآنية.
وفي السياق ذاته، أكد الدكتور المراشده أن هذا التحول التشريعي ينسجم مع الرؤية الملكية الشمولية لتحديث الدولة وتعزيز سيادة القانون، مشددًا على ضرورة بناء أدوات تشريعية قادرة على التنبؤ بالتحديات وصياغة حلول استباقية، بدلًا من الاقتصار على المعالجات الوقتية.
وأوضح في مقاله أن التجارب الدولية، لا سيما النموذج الكندي والأوروبي، أثبتت أن التشريع الفعّال يتطلب مشاركة واسعة من مختصين من مختلف الحقول، بدءًا من بلورة الفكرة القانونية، مرورًا بصياغة النص، وانتهاءً بتطبيقه وتقييم أثره الواقعي.
ورغم توفر كفاءات بحثية متميزة في الأردن، أشار المراشده إلى أن استثمارها لا يزال محدودًا، داعيًا إلى إعادة هيكلة العلاقة بين مراكز البحث العلمي ومؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية، وتطوير آليات مؤسسية دائمة تضمن دمج المعرفة الأكاديمية في صناعة القرار التشريعي.
واختتم الدكتور المراشده مقاله بالتأكيد على أن تفعيل أدوات البحث العلمي في العملية التشريعية يشكل ضرورة وطنية، داعيًا إلى خطوات عملية تشمل تشكيل فرق بحثية متعددة التخصصات، وتشجيع الجامعات على تقديم دراسات أثر واقعية، إلى جانب نشر نتائج تلك الدراسات وتعزيز التشاور المجتمعي، بما يرسّخ الثقة بالقانون ويزيد من فاعليته.
وتاليًا نص المقال الكامل كما نُشر على جريدة الدستور الأردنية:
البحث العلمي في إصلاح التشريعات الأردنية: أداة فاعلة لتحقيق التنمية الوطنية
كتب: د. زيد مُعين المراشده * -
في مقالاتي السابقة، تناولت أهمية الإصلاح التشريعي وضرورة مراجعة المنظومة القانونية بشكل دوري، في ضوء التحولات المتسارعة التي يشهدها الواقع الأردني، والتحديات المتزايدة التي تفرض على المشرّع أن يكون أكثر استباقية ومرونة.
وقد أكّدت في تلك المقالات أن نجاح أي إصلاح تشريعي يتطلب منهجية علمية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار الواقع المجتمعي والاقتصادي والسياسي، وهذا المقال يأتي استكمالًا لتلك الرؤية، بتسليط الضوء على دور البحث العلمي، في مختلف حقوله وتخصصاته، بوصفه المحرّك الأساسي لأي عملية إصلاح تشريعي حقيقي.
لقد أصبح من المسلّم به أن القانون لم يعد يُنتج في معزل عن بيئته، ولا يمكن أن يكون فاعلًا ما لم يُبنَ على أسس علمية دقيقة تراعي التداخل بين المجالات المعرفية المختلفة، فالتشريع، بوصفه أداة لتنظيم الحياة العامة، يحتاج إلى مقاربة شمولية تستند إلى تحليل معرفي واسع يشمل الاقتصاد والإدارة والاجتماع والصحة العامة والبيئة والتكنولوجيا، فضلًا عن الخبرة القانونية المتخصصة.
لذلك، إن الاقتصار على النظر إلى القانون بوصفه مسألة فنية تخص المشرعين وحدهم، لم يعد كافيًا، فالإصلاح الحقيقي يمر من بوابة البحث العلمي القائم على بيانات وتحليلات موضوعية وميدانية، وهو ما يمنح التشريعات جدواها وفاعليتها في التطبيق.
في هذا السياق، يُشكل إقرار نظام التنظيم الجيد وتقييم الأثر للتشريعات والسياسات رقم (16) لسنة 2025، والذي يدخل حيّز التنفيذ في مطلع أيلول، نقطة تحوّل بارزة في الفكر التشريعي الأردني، فالنظام الجديد لا يكتفي بوضع إطار قانوني لتقييم الأثر، وإنما يرسّخ لثقافة مؤسسية قوامها أن التشريع يجب أن يكون مبنيًا على دراسة مسبقة للأثر المتوقع، وعلى مراجعة لاحقة لنتائج التطبيق، بما يتيح تعديل النصوص وتطويرها بشكل مستمر.
كما يُلزم هذا النظام الجهات الحكومية بإشراك العديد من الجهات المعنية، في مراحل إعداد السياسات والتشريعات، مما يشكل نقلة نوعية نحو بناء سياسة تشريعية علمية تشاركية، تتكامل فيها المعرفة القانونية مع سائر فروع المعرفة.
ولا يمكن النظر إلى هذا التطور بمعزل عن التوجه الملكي الواضح نحو تحديث المنظومة التشريعية ضمن رؤية شمولية لتعزيز سيادة القانون وبناء مؤسسات مرنة وعصرية، إذ يتطلب هذا التوجه إعادة النظر في الأدوات المستخدمة في التشريع، بحيث لا تكون ردّ فعل لوقائع وقتية، وإنما ناتجة عن دراسات علمية تتنبأ بالمشكلات وتقدم الحلول قبل وقوعها.
ومن هنا، فإن البحث العلمي بكافة تخصصاته، في القانون، وفي الاقتصاد والعلوم الاجتماعية والصحة العامة والتكنولوجيا، وغيرها من التخصصات يشكل ركيزة أساسية في رسم السياسات العامة وسن التشريعات ذات الأثر المستدام.
لقد أثبتت التجارب الدولية الناجحة، ومنها النموذج الكندي والأوروبي، أن التشريع الفعال هو الذي ينبني على تقييمات دقيقة يشترك فيها المختصون من مختلف المجالات، بدءًا من لحظة التفكير في القانون مرورًا بصياغته، وانتهاءً بتطبيقه وتقييم أثره الواقعي.
وفي الأردن، تتوفر لدينا كفاءات بحثية مشهود لها على المستويين العلمي والأكاديمي، إلا أن استثمار هذه الطاقات لم يبلغ بعد مداه الكامل، وهو ما يتطلب إعادة هيكلة العلاقة بين مراكز الأبحاث ومؤسسات التشريع والتنفيذ، وإيجاد آليات مستدامة لربط المعرفة القانونية والبحثية في شتى التخصصات بالحاجات التشريعية.
لا شك أن إصلاح التشريعات لا يتحقق بمجرد تعديل نص أو سن قانون جديد، وإنما يبدأ من الإطار الفكري الذي يُنتج القانون، ويكتمل حين يتقاطع القانون مع الواقع وينجح في معالجته.
وهنا، يُبرز البحث العلمي دوره المركزي بوصفه الوسيلة الوحيدة لفهم الواقع، وقياس المشكلات، وتحليل الظواهر، واستشراف النتائج. فعند صياغة قانون ضريبي مثلًا، لا يمكن الاستغناء عن تحليلات الخبراء الاقتصاديين وسلوكيات السوق والمشروعات الصغيرة، ولا يمكن إعداد قانون حماية البيئة من دون الاستعانة بخبرات علماء المناخ، ولا يُعقل صياغة قانون للرعاية الصحية بمعزل عن الأطباء وخبراء الصحة العامة.
ومن هذا المنطلق، فإن تفعيل أدوات البحث العلمي في العملية التشريعية يتطلب خطوات عملية، تبدأ بتكليف فرق متعددة التخصصات لدراسة مشاريع القوانين الكبرى، وربط أولويات البحث الأكاديمي الوطني باحتياجات الدولة في مجالات التشريع، وتشجيع الجامعات والمؤسسات البحثية على تطوير قواعد بيانات تحليلية حول أداء التشريعات.
كما أن نشر نتائج دراسات تقييم الأثر وتعزيز التشاور العام يعزز من شفافية العملية التشريعية ويزيد من قابلية المجتمع لتقبّل القانون وفهم أهدافه.
إن أحد أهم الملامح التي يُكرّسها نظام التنظيم الجيد هو الانتقال من مرحلة "رد الفعل" إلى مرحلة "الاستباق"، بحيث لا يُنتظر ظهور الأزمة للبحث عن تشريع يعالجها، وإنما يُبنى القانون ضمن تصور شمولي مبكر، وهو ما لا يمكن تحقيقه دون وجود أدوات علمية متمكنة، وآليات رصد وتحليل دقيقة، وبيئة معرفية تتكامل فيها التخصصات المختلفة من أجل هدف واحد: قانون فعّال وعادل وملائم.
وفي ختام هذا المقال، لا بد من التأكيد على أن إدماج البحث العلمي في العملية التشريعية بات ضرورة وطنية ومؤسسية، لضمان أن تكون قوانيننا قادرة على مواكبة الواقع، ومعالجة التحديات، وتحقيق طموحات التنمية والعدالة.
كما أن نظام التنظيم الجيد وتقييم الأثر يمثّل فرصة حقيقية لتجسيد هذا التوجه على أرض الواقع، شرط أن يُفعّل بجدية، ويُرافق بإرادة سياسية داعمة، وبنية مؤسسية مرنة، وشراكة دائمة بين صنّاع القرار والمجتمع الأكاديمي، وبهذا فقط، يمكن للتشريع الأردني أن ينتقل من الجمود إلى الحيوية، ومن الظرفيّة إلى الاستدامة، ومن التنظير إلى التأثير الفعلي في حياة المواطنين.
*
- خبير في الشؤون القانونية والإعلامية.
Zaid_marashdeh@yahoo.com
0797445775