الزميل مُعين المراشده يكتب .. أصحاب الفيل الجدد: من أبرهة إلى "فيل" السياسة الأمريكية
كتب: معين المراشده * -
استوقفتني سورة الفيل كثيرًا، ليس فقط بما تحمله من مشهدٍ إعجازيٍّ يهزّ الوجدان، بل تحديدًا بصياغتها البلاغية اللافتة التي جاءت بالأفعال المضارعة: ترَ، يجعل، ترميهم. والسؤال: لماذا يصف القرآن حادثةً مضت بصيغة الحاضر والمستقبل؟
هنا تبرز الدلالة البليغة: فالفعل المضارع في العربية يفيد الاستمرار والامتداد عبر الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. أي أن ما حدث مع أبرهة ليس واقعة تاريخية منقطعة، بل هو نموذج إلهي يتكرر كلما عاد الطغيان. فغضب الله على "أصحاب الفيل" لم ينتهِ بانتهاء جيش أبرهة، بل يتجدد مع كل قوة باغية في أي زمان ومكان.
جيش أبرهة جاء متغطرسًا بفيل ضخم وجموع جرّارة ليهدم الكعبة ويُخضع العرب لسلطته. كان المشهد مرعبًا للناس، لكن الله أرسل الطير الأبابيل تحمل حجارة صغيرة، فمزّقت الجيش وجعلتهم كالعصف المأكول.
العبرة واضحة: القوة المادية مهما عظمت لا تقف أمام عدل الله وحماية الحق.
حين نقرأ: «ألم ترَ كيف فعل ربك بأصحاب الفيل»، لا نشعر أننا نقرأ تاريخًا منسيًا، بل نعايش المشهد وكأنه يحدث الآن. لماذا؟
لأن الأفعال المضارعة مثل.. يجعل (حاضر ومستقبل)،ترميهم (حاضر ومستقبل)، تدل على أن الفعل مستمر متكرر، وأن ما وقع في الماضي يتكرر في الحاضر وسيتكرر في المستقبل.
إنها صياغة مقصودة لتُثبت أن سنة الله في الطغاة لا تنتهي، وأن كل "أصحاب فيل" جدد سيذوقون ذات المصير، ولو اختلفت صور الفيل وأشكاله.
في عصرنا الحديث، نرى قوى عظمى وأنظمة متغطرسة تظن أن قوتها ستحميها من العدالة الإلهية. والمفارقة الرمزية هنا أن الفيل لم يعد مجرد حيوان في جيش أبرهة، بل صار أيضًا شعارًا سياسيًا عالميًا، كما هو الحال مع الحزب الجمهوري الأمريكي.
لا يعني هذا أن القرآن قصد هذا الحزب بعينه، لكن الرمزية لافتة: فالفيل تحوّل إلى أيقونة للهيمنة، سواء كانت عسكرية بترساناتها، أو اقتصادية بجشعها، أو إعلامية بتضليلها. وكل من يظن أن "فيله" سيحميه من غضب الله، إنما يعيد تمثيل مشهد أصحاب الفيل الأولين.
في الماضي: كان الفيل رمزًا للقوة العسكرية المباشرة.
في الحاضر: الفيلة الحديثة قد تكون أسلحة دمار شامل، أو أنظمة اقتصادية ظالمة، أو وسائل إعلام موجهة.
في المستقبل: ستتغير الأدوات، لكن النتيجة ستبقى: «ألم يجعل كيدهم في تضليل».
فالقانون الإلهي ثابت لا يتبدل: الطغيان مهما تغيّر شكله، مصيره الزوال.
حين تمرّ بعينيك على سورة الفيل، لا تتعامل معها كحكاية تاريخية بعيدة. إنها خطاب لك أنت، ولزمانك هذا، ولما تراه من طغيان وجبروت في عالم اليوم.
انظر حولك.. إلى القوى التي تفرض هيمنتها بالقوة، إلى الدول التي تظن أن أسلحتها تحصّنها، إلى الأنظمة التي تتوهم أن المال أو الإعلام سيخلّدها. كل هؤلاء "أصحاب فيل" جدد، ينتظرون لحظة الحقيقة التي لا مفر منها.
سورة الفيل إذًا ليست قصة تاريخية منقطعة، بل درس متجدد وعبرة حاضرة. اختيار الفعل المضارع في آياتها لم يكن صدفة، بل إشارة إلى أن الحدث مستمر في تكراره، وأن غضب الله يتجدد مع كل طاغية يظن أن "فيله" سيحميه من مصيره المحتوم.
وفي عالمنا المليء بأصحاب "الفيل" الجدد، يبقى الدرس القرآني واضحًا.. من يظن أن قوته تحميه من مصير أبرهة، فقد نسي أن التاريخ يعيد نفسه، وأن السنن الإلهية لا تتبدل.
* ناشر ورئيس هيئة تحرير وكالة "الرقيب الدولي" الإخبارية.