كتب: النائب فراس القبلان
كان ينبغي أن تُعطل النشرات الإخبارية، وتُفرغ الشاشات من كل محتواها، لتُبث محاضرة الزعيم – أو كما يُفضّل أن يُلقّب – “السياسي الذي يرفض التقاعد”، عبد الرؤوف الروابدة، لا لمرة، بل لعشرات المرات، حتى تحفظها الذاكرة الوطنية كما تحفظ أسماء المدن والجبال والأنهار!
ما قاله أبو عصام في منتدى الحموري الثقافي، مساء السبت، لم يكن مجرد محاضرة، بل كان طوفانًا من الوعي، وسيلاً من المعاني، ونشيدًا طويلًا للوطن، لم يُنشَد بمثله منذ زمن.
عنوان الندوة “السردية الأردنية في ظل التحولات الإقليمية” بدا جامدًا، لكن ما أن بدأ الأرطبون حديثه، حتى صارت الكلمات كأنها خيولٌ جامحة، تسابق الزمن وتخرق السائد.
عبد الرؤوف الروابدة لم يُحدّثنا عن الأردن، بل نحت الأردن بالكلمات، أعاد تعريفه لا كما نراه على الخريطة، بل كما يسكن في الضمير. جعل من الجغرافيا شعرًا، ومن الديموغرافيا وجدانًا، ومن التاريخ ذاكرة ناطقة.
حديثه لم يكن خطابًا سياسيًا تقليديًا، بل كان مرآة عميقة يرى فيها الأردني ملامحه كما يجب أن تكون: واثقة، شامخة، حقيقية.
الرجل لا يتحدث، بل يصوغ موقفًا. لا يهادن، بل يواجه. لا يُجمّل، بل يُسمّي الأشياء بأسمائها، يجلد الزيف، ويحتفي بالثوابت.
وأدهش الحضور بتواضعه حين رفض أن يُطلق عليه لقب “الزعيم”، وقالها ببساطته المعهودة: “أنا أحبذ أن يُقال عني: السياسي الذي يرفض التقاعد.”
وما أصدقها من عبارة!
فهو السياسي الذي لم يتعب، ولم يتراجع، ولم يُغلق دفتره، ولا تزال ذاكرته مفتوحة، ولسانه حاضرًا، ورأيه حادًا كحد السيف.
أبو عصام، بهذا الفيض من السرد والموقف والعقل والوجد، لم يكن زعيمًا سياسيًا فقط، بل بدا وكأنه ضمير المرحلة، وعين التاريخ، وصوت الهوية الأردنية حين تتحدث بلا خوف، وبلا رتوش.
كل من حضر خرج بإحساس أنه بات فردًا في “جيش الوحدة”، لا جيش الشعارات، بل وحدة الروح والمصير.
فالأردني لا يُمكن أن يكون إلا أردنيًا عربيًا، لا يعرف الطائفية، ولا يعرف الإقليمية، ولا يقبل التفتيت. ذلك “لا يلبق” له، كما قالها الزعيم، ببساطة واختصار يشبه ضربة شاعر.
من ذا الذي يستطيع تلخيص هذا الرجل؟!
هو ليس مجرد سيرة، بل أرشيف وطن، ومفكرة مرحلة، وصانع مفترق طرق. هو من أولئك الذين لا يُنصفهم الوصف، لأنهم أكبر من الكلمات، وأوسع من المقالات.
وحين ختم أبو عصام، قالها كما لا يستطيع أن يقولها سواه:
“هاظ أَنِي!”
فوقفت العبارة، وتوقفت اللغة، ولم يبقَ بعدها ما يُقال.